كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ تَرْتِيبِ نُزُولِ الْوَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمُجْرَيَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ نَزَلَ مَا بَعْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَقِبَ قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الَّذِي قَالَهُ فِي الْقُرْآنِ- فَقَدْ أَرَادَهُ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَهُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَحَرَّى اسْتِمَاعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأُعْجِبَ بِهِ.
قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ لَا بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلَاهُ، مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَثَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (74: 11) إِلَخْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ الَّتِي تَصَوَّرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُحَلِّلُونَ لِمَسْأَلَةِ الْوَحْيِ قَلِيلَةُ الْمَوَادِّ، ضَيِّقَةُ النِّطَاقِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِوَحْيِ الْقُرْآنِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَأَعْلَى وَأَوْسَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِثْلُ بَحِيرَى وَنَسْطُورَ وَكُلِّ نَصَارَى الشَّامِ وَنَصَارَى الْأَرْضِ وَيَهُودِهَا، دَعِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ كَانَ يَمُرُّ بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالطَّرِيقِ إِلَى الشَّامِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ وَحْيِ اللهِ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ- وَنَزَلَ أَيْضًا مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا أَيْ رَقِيبًا وَحَاكِمًا كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ (48) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ {أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} (4: 44 و51) وَنَسُوا نَصِيبًا أَوْ حَظًّا آخَرَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا (5: 13، 14) وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى مِمَّا خَالَفُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ الرُّهْبَانِ أَوْ غَيْرِ الرُّهْبَانِ، أَفَاضُوهَا عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَى رِحْلَتِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمُوسَوِيِّ وَالْعِيسَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ آرْيُوسُ وَأَتْبَاعُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي حَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ الرَّسْمِيَّةُ بِعَدَمِ قَانُونِيَّتِهَا (أَبُو كَرِيفٍ) كَإِنْجِيلِ طُفُولَةِ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا أَمْ لَا، فَمُحَمَّدٌ لَمْ يَعْقِدْ فِي الشَّامِ وَلَا فِي مَكَّةَ مَجْمَعًا مَسِيحِيًّا كَمَجَامِعِ الْكَنِيسَةِ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَنَاجِيلِ وَالْمَذَاهِبِ الْمَسِيحِيَّةِ وَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
إِنَّ وُقُوعَ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مِمَّا يَعْلَمُ وَاضِعُو هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ النَّقْلِ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَعَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ يُقَالُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَتِلْكَ الْمَذَاهِبِ بِرَأْيِهِ فِي تِلْكَ الْخِلْسَةِ التِّجَارِيَّةِ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَيَأْمَنُ عَلَى حُكْمِهِ الْخَطَأَ؟ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: «لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ» يَعْنِي فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ لِئَلَّا يَكُونَ مَا كَذَّبُوهُمْ فِيهِ مِمَّا حَفِظُوا، وَيَكُونَ مَا صَدَّقُوهُمْ بِهِ مِمَّا نَسُوا حَقِيقَتَهُ أَوْ حَرَّفُوا أَوْ بَدَّلُوا.
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَى الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ بِهِ، كَمُخَالَفَةِ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيمَنْ تَبَنَّتْ مُوسَى فَفِيهِ أَنَّهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَفِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ- وَفِيمَا قَرَّرَهُ مِنْ عَزْوِ صُنْعِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَزْوِهِ إِيَّاهُ إِلَى السَّامِرِيِّ وَإِثْبَاتِهِ لِإِنْكَارِ هَارُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
بَلْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
رُوَيْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُفْتَاتُونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ وَحْيَ الْقُرْآنِ أَعْلَى مِمَّا تَزْعُمُونَ، وَأَكْبَرُ مِمَّا تَتَصَوَّرُونَ، وَتُصَوِّرُونَ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا أَقَلُّ عِلْمًا كَسْبِيًّا مِمَّا تَدَّعُونَ وَأَكْمَلُ اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي كَلَامِ اللهِ عَنِ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِمَّا تَسْتَكْبِرُونَ.
وَإِذَا كَانَ وَحْيُ الْقُرْآنِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ مَا حُفِظَ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُ الْخَاتَمُ لَهُمُ الْمُكَمِّلُ لِشَرَائِعِهِمُ الْخَاصَّةِ الْمَوْقُوتَةِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا وَضَعَهُ سُولُونُ الْفَيْلَسُوفُ الْيُونَانِيُّ الَّذِي شَبَّهَ مُحَمَّدًا بِهِ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ عَصْرِنَا فِي مِصْرِنَا، مَعَ بُعْدِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَفَيْلَسُوفٍ نَشَأَ فِي أُمَّةِ حِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَدَوْلَةٍ وَسِيَاسَةٍ، وَدَخَلَ فِي كُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ.
الْقَوْلُ الْحَقُّ فِي اسْتِعْدَادِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلنُّبُوَّةِ:
التَّحْقِيقُ فِي صِفَةِ حَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، وَإِعْدَادِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْفِطْرَةِ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْعَقْلِ الِاسْتِعْدَادِيِّ الْهَيُولَانِيِّ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الْعِلْمِيِّ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهُ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِيَبْعَثَهُ مُتَمِّمًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةَ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهَا وَرَذَائِلَهُمْ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْعُزْلَةَ حَتَّى لَا تَأْنَسَ نَفْسُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ مُنْكِرَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، كَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيئَةِ كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ- لِيَبْعَثَهُ مُصْلِحًا لِمَا فَسَدَ مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَجَعَلَهُ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، لِتَنْفِيذِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَعْلَى، فَكَانَ مِنْ عِفَّتِهِ أَنْ سَلَخَ مِنْ سِنِي شَبَابِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ زَوْجِهِ خَدِيجَةَ كَانَتْ فِي 15 مِنْهَا عَجُوزًا يَائِسَةً مِنَ النَّسْلِ فَتُوُفِّيَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَظَلَّ يَذْكُرُهَا وَيُفَضِّلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهَا، حَتَّى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمَالِهَا وَحَدَاثَتِهَا وَذَكَائِهَا وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهَا لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ- وَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَوْ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلَى شَجَاعَتِهِ الْكَامِلَةِ يَقُودُ أَصْحَابَهُ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لِأَجْلِ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) كَانَ مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَهَجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ بِالْحَدِيدِ مِنْ مِغْفَرٍ وَدِرْعٍ فَلَمْ يَجِدْ صلى الله عليه وسلم بُدًّا مِنْ قَتْلِهِ فَطَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ خَلَلِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَظَلَّ طُولَ عُمْرِهِ وَبَعْدَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ يُؤْثِرُ الْقَشَفَ وَشَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى نِعْمَتِهِ، مَعَ إِبَاحَةِ شَرْعِهِ لِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَهْيِهِ لِمَنْ كَانَ يَتْرُكُهَا تَدَيُّنًا، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، مَعَ إِبَاحَةِ دِينِهِ لِلزِّينَةِ وَأَمْرِهِ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا قَطُّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ إِلَّا الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّقِيَّ.
وَأَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادَهُ الذَّاتِيَّ (لَا الْكَسْبِيَّ) لِلْبَعْثَةِ بِإِكْمَالِ دِينِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالتَّشْرِيعِ الْكَافِي الْكَافِلِ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، بِأَنْ أَنْشَأَهُ كَأَكْثَرِ قَوْمِهِ أُمِّيًّا وَصَرَفَهُ فِي أُمِّيَّتِهِ عَنِ اكْتِسَابِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ بِمَا يَتَفَاخَرُ بِهِ قَوْمُهُ مِنْ فَصَاحَةِ اللِّسَانِ، وَقُوَّةِ الْبَيَانِ، مِنْ شِعْرٍ وَخَطَابَةٍ، وَمُفَاخَرَةٍ وَمُنَافَرَةٍ، إِذْ كَانُوا يَؤُمُّونَ أَسْوَاقَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَأَشْهَرُهَا عُكَاظُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي لِإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِمْ وَبَرَاعَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ لِارْتِقَاءِ لُغَتِهِمْ، وَلِوُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي شِعْرِهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يَزْهَدَ فِي مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ لِمَا عَسَاهُ يَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَقَدْ سَمِعَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ زُهَاءَ مِائَةِ قَافِيَةٍ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: «إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ» وَقَالَ: «آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ» وَقَالَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
قُلْنَا: إِنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَطَرِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ لِسَانِيٍّ وَلَا نَفْسِيٍّ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُوهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، بَلْ رُوِيَ عَنْ خَدِيجَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ أَخْبَارَ أَمَانَتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا قَالَ بَحِيرَى الرَّاهِبُ فِيهِ تَعَلَّقَ أَمَلُهَا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَوِّيهِ حَلِفُهَا بِاللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا، قُلْنَا: إِنَّهَا عَلَّلَتْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَرَأَتْ أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى اسْتِفْتَاءِ ابْنِ عَمِّهَا أُمَيَّةَ فِي شَأْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم وَتَعَبُّدُهُ فِي الْغَارِ عَامَ الْوَحْيِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَلًا كَسْبِيًّا مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ السَّلْبِيِّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَلَا عَادَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الِاسْتِعْدَادَ لِلنُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِهَا لَاعْتَقَدَ حِينَ رَأَى الْمَلِكَ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ حُصُولَ مَأْمُولِهِ وَتَحَقُّقِ رَجَائِهِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاعِثُ لِهَذَا الِاخْتِلَاءِ، وَالتَّحَنُّثِ اشْتِدَادَ الْوَحْشَةِ مِنْ سُوءِ حَالِ النَّاسِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالرَّجَاءِ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا، كَمَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الضُّحَى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (93: 7) وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الشُّورَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (42: 52 و53) وَأَلَمَّ بِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ إِلْمَامًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يَتِيمًا فَقِيرًا أُمِّيًّا مِثْلَهُ تَنْطَبِعُ نَفْسُهُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى زَمَنِ كُهُولَتِهِ، وَيَتَأَثَّرُ عَقْلُهُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ يُخَالِطُهُ لاسيما إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَأَهْلِ عَصَبَتِهِ، وَلَا كِتَابَ يُرْشِدُهُ، وَلَا أُسْتَاذَ يُنَبِّهُهُ، وَلَا عَضُدَ إِذَا عَزَمَ يُؤَيِّدُهُ، فَلَوْ جَرَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى جَارِي السُّنَنِ لَنَشَأَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَأَخَذَ بِمَذَاهِبِهِمْ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَيَكُونَ لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ مَجَالٌ، فَيَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ، إِذَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ضَلَالَاتِهِمْ، كَمَا فَعَلَ الْقَلِيلُ مِمَّنْ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَّتِهِ، بَلْ بُغِّضَتْ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ مَبْدَأِ عُمُرِهِ، فَعَاجَلَتْهُ طَهَارَةُ الْعَقِيدَةِ، كَمَا بَادَرَهُ حُسْنُ الْخَلِيقَةِ، وَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (93: 7) لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ، قَبْلَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، حَاشَ لِلَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الْإِفْكُ الْمُبِينُ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحَيْرَةُ تُلِمُّ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ، فِيمَا يَرْجُونَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَطَلَبِ السَّبِيلِ إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ مِنْ إِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ، وَإِرْشَادٍ لِلضَّالِّينَ، وَقَدْ هَدَى اللهُ نَبِيَّهُ إِلَى مَا كَانَتْ تَتَلَمَّسُهُ بَصِيرَتُهُ بِاصْطِفَائِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ لِتَقْرِيرِ شَرِيعَتِهِ. اهـ.
(أَقُولُ) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ كَمِرْآةٍ صَقِيلَةٍ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْآدَابِ الْوِرَاثِيَّةِ وَالْعَادَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ، إِلَى أَنْ تَجَلَّى فِيهَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهِ، وَأَبْلَغِ مَبَانِيهِ، لِتَجْدِيدِ دِينِ اللهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ، وَجَعَلَ بَعْثَةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِهِ لِلْبَشَرِ عَامَّةً دَائِمَةً لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهَا إِلَى وَحْيٍ آخَرَ، فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ وَرُوحِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا نَزَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَمَا أَشْرَقَ فِيهَا مِنْ نُورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الشُّورَى، هُوَ مَضْرَبُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (24: 35).
فَزَيْتُ مِصْبَاحِ الْمَعَارِفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، يُوقَدُ مِنْ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، بَلْ هِيَ إِلَهِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ.
هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا لِتَفْنِيدِ مَزَاعِمِ مُصَوِّرِي الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ شَخْصِ مُحَمَّدٍ وَاسْتِعْدَادِهِ، وَيَتْلُوهُ مَا هُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا، وَهُوَ تَفْنِيدُهُ بِمَوْضُوعِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ آيَةُ نُبُوَّتِهِ الْخَالِدَةُ، وَحُجَّتُهُ النَّاهِضَةُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. آيَةُ اللهِ الْكُبْرَى- الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ (الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، الْكِتَابُ الْعَزِيزُ) الَّذِي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} هُوَ كِتَابٌ لَا كَالْكُتُبِ، هُوَ آيَةٌ لَا كَالْآيَاتِ، هُوَ مُعْجِزَةٌ لَا كَالْمُعْجِزَاتِ، هُوَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَهُوَ سِرٌّ لَا كَالْأَسْرَارِ، هُوَ كَلَامٌ لَا كَالْكَلَامِ، هُوَ كَلَامُ اللهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَيْسَ لِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ الْأَمِينِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ إِلَّا نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سَمَاءِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ- مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ لِلنَّاسِ لِيَهْتَدُوا بِهِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِنْ سُورِهِ بِكَسْبِهِ وَمَعَارِفِهِ، وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا بَلِيغًا مُمْتَازًا إِلَّا بِهِ، بَلْ فِيهِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِ كَفِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ (رَاجِعْ ص72 و82 و401 و409 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 23) أَهَمَّ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِالْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا حَفِظَهُ التَّارِيخُ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَوَاضِعِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، وَسَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ.
فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا عَلِيمًا حَكِيمًا رَحِيمًا مُرِيدًا فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ وَلَا مَنَاصَ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أُمَمِهِمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ فَرْضًا إِلَهِيًّا لَازِبًا عَامًّا كَمَا قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (7: 158).
وَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودِ هَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْهَادِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْلَاهُمْ بِالِاتِّبَاعِ بِعُنْوَانِ (سَيِّدِ الْبَشَرِ وَحَكِيمِهِمُ الْأَعْظَمِ).
وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا قَوْلًا وَكِتَابَةً (مِنْهُمْ) الْأُسْتَاذُ مُولَرِ الْإِنْكِلِيزِيُّ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهُمْ ذَلِكَ الْفَيْلَسُوفُ الطَّبِيبُ السُّورِيُّ الْكَاثُولِيكِيُّ النَّشْأَةِ الَّذِي رَأَى فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ بَعْضَ الْمَنَاقِبِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ: أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ كَنَبِيٍّ فَتَرَاهُ عَظِيمًا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ كَرَجُلٍ فَأَعُدُّهُ أَعْظَمَ، وَذَكَرَ أَبْيَاتًا فِي وَصْفِهِ وَوَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحْكَمِ الْآيَاتِ، الْمَانِعَةِ لِمَنْ عَقَلَهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْعُمْرَانِ بِالْعَادَاتِ، وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ بِحِكْمَةِ بَيَانِهِ وَقُوَّةِ بَنَانِهِ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:
بِبَيَانِهِ أَرْبَى عَلَى أَهْلِ النُّهَى ** وَبِسَيْفِهِ أَنْحَى عَلَى الْهَامَاتِ

مِنْ دُونِهِ الْأَبْطَالُ فِي كُلِّ الْوَرَى ** مِنْ سَابِقٍ أَوْ حَاضِرٍ أَوْ آتٍ

وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ أَحْرَارِ مُفَكِّرِي الشُّعُوبِ كُلِّهَا كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ الْجَاحِدِينَ لِوُجُودِ رَبٍّ مُدَبِّرٍ لِلْعَالَمِينَ قَلِيلُونَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَحَجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي نَشْأَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ صِدْقِهِ الْفِطْرِيِّ الْمَطْبُوعِ، ثُمَّ بِمَا جَاءَ بِهِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُصْلِحَةِ لِجَمِيعِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِذَا عَقَلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، وَإِسْنَادِهِ إِيَّاهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَهُوَ صلى الله عليه وسلم بِمَزَايَاهُ هَذِهِ حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، بَلْ مَجْمُوعَةُ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ- وَهَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا أَزُفُّهُ إِلَيْكَ مِنْ قَوَاعِدِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْإِصْلَاحِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدٍ وَجِيزٍ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَةِ جَعْلِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ مُتَفَرِّقَةً فِي سُورِهِ بِأُسْلُوبِهِ الْغَرِيبِ الْعَجِيبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا نُعِيدُهُ مَعَ زِيَادَةٍ مُفِيدَةٍ وَإِيضَاحٍ اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ فِي تَكْرَارِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ إِيجَازٍ أَوْ إِسْهَابٍ، وَتَفْصِيلٍ أَوْ إِجْمَالٍ.